بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم
لحوم البشر: أشهى مأكولات العصر؟
لا تطيب مجالس الناس اليومَ إلا بتناول وجبةٍ دسمة من لحم أحد المسلمين، ينهش الجالسون في لحم هذا الشخص،
كلٌّ منهم يتناول قطعةًمنه، فلا يشبعون ولا يملُّون من تَكرار تناولها كُلَّما اجتمعوا،
حتَّى أصبحت رائحةالغِيبة المنتنة تفوح من المجالس.
فإلى مَن أدمنوا أكل لحوم البشر أقول: إنَّ الغيبة مرض خطير،
وداء فتاك، وسلوك يُفرق بين الأحباب، وقد نهانا الله - تعالى - عن الغيبة؛ فقال:
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُواكَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ
بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلايَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِمَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌرَحِيمٌ} [الحجرات: 12].
والغيبة
كما قال النبي - صلَّى الله عليهوسلَّم -: ((ذكرك أخاك بما يكره ولو كان
فيه))، قيل: يا رسولالله، إن كان في أخي ما أقول؟ قال: ((إن كان فيه ما
تقول فقد اغتبته، وإن لم يكنفيه فقد بهتَّه))[1]،
وما يكرهه الإنسان يتناول خَلْقَه وخُلُقه ونسبه، وكلما يخصه.
وعن
عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلت للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
حسبك من صفية كذا وكذا – تعني: أنَّها قصيرة - فقالالنَّبي - صلَّى الله
عليه وسلَّم -:
((لقد قلت كلمة لو مزجت بماءِ البحر لمزجته))؛
أي: خالطته مُخالطة يتغيَّر بها طعمه أو ريحه؛ لشدَّةقبحها.
والغيبة من كبائرِ الذُّنوب، وهي مُحرمة بإجماع المسلمين؛ فقد قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
((كل المسلم على المسلم حرام: ماله وعرضه ودمه))[2].
وعن سعيد بن زيد - رضي الله عنه - قال: قالرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال:
((إنَّ مِن أرْبَى الرِّبا الاسْتِطالَةَ في عِرْضِ المُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقّ)).[3]
والقائل
والمستمع للغيبة سواء؛ قال عتبة بنأبي سفيان لابنه عمرو: "يا بني، نزِّه
نفسك عن الخنا، كما تُنَزِّه لسانك عن البذا؛فإنَّ المستمع شريك القائل".
لذلك لا تعجب حين تَجد القرآن الكريم يصوِّر الغيبةفي صورة مُنفرة، تتقزز منها النفوس، وتنبو عنها الأذواق؛ قال تعالى:
{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًافَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12]،
فشبَّه
أكل لحمه ميتًا المكروه للنُّفُوس غاية الكراهة باغتيابه، فكما أنَّ الناس
يكرهون أكلَ لحمه، وخصوصًا إذا كان ميتًا،فكذلك فليكرهوا غيبته، وأكل لحمه
حيًّا
قال السعدي - رحمه الله -:
"وفي هذه
الآية دليل على التحذير الشديد من الغيبة، وأنَّ الغيبة منالكبائر؛ لأنَّ
الله شبهها بأكل لحم الميت، وذلك من الكبائر". اهـ.[4]
فمثل المغتاب كمثل الكلب، فالكلبُ هوالحيوان الوحيد الذي يأكلُ لحمَ أخيه بعد موته.
والمغتاب
يُعذب في قبره بأن يخمش وجهه بأظفاره،حتَّى يسيل منه الدَّم، ففي ليلة
المعراج مرَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقومٍ لهم أظفارٌ من نحاس
يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقال:
((من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون فيأعراضهم)).
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ:
((يَا
مَعْشَرَ مَنْ قَدْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِالإِيمَانُ إِلَى
قَلْبِهِ، لاَ تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ تُعَيِّرُوهُمْ،وَلاَ
تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ
أَخِيهِالْمُسْلِمِ، تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ
اللَّهُ عَوْرَتَهُ،يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ)).[5]
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "عليكم بذكر الله؛ فإنَّه شفاء، وإيَّاكم وذكرَ الناس فإنه داء".
وقال الحسن البصري - رحمه اللَّه -: "والله،للغيبة أسرع في دين الرَّجل من الأكِلَةِ في الجسد".
وعن الحسن البصري - رحمه اللَّه - أنَّ رجلاً قال له: إنَّك تغتابني فقال: ما بلغَ قدرُك عندي أنْ أحكِّمَكَ في حسناتي.
وقال ابن المبارك - رحمه اللَّه -: "لو كنتُ مُغتابًا أحدًا، لاغتبتُ والديَّ؛ لأنَّهما أحقُّ بحسناتي".
حصائد اللسان هلاك الإنسان:
مما لا شكَّ فيه أن اللسان هو الذي يقود إلى هذه العظائم منالآثام والذُّنوب؛
فعَنْ
مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ - صلَّى الله عليه
وسلَّم - فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ،وَنَحْنُ
نَسِيرُ،
فَقُلْتُ: يَا نَبِىَّ اللَّهِ، أَخْبِرْنِى بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِى الْجَنَّةَ، وَيُبَاعِدُنِى مِنَ النَّارِ، قَالَ:
((لَقَدْ
سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْيَسَّرَهُ اللَّهُ
عَلَيْهِ، تَعْبُدُ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا،وَتُقِيمُ
الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِى الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ،
وَتَحُجُّالْبَيْتَ - ثُمَّ قَالَ -: أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ
الْخَيْرِ: الصَّوْمُجُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ،
وَصَلاَةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِاللَّيْلِ))
ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16]،
حَتَّى بَلَغَ {يَعْمَلُونَ}، ثُمَّ قَالَ: ((أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِسَنَامِهِ؟))،
فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ((رَأْسُ الأَمْرِ وَعَمُودُهُ: الصَّلاَةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ: الْجِهَادُ))،
ثُمَّ قَالَ: ((أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمِلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟))،
فَقُلْتُ لَهُ: بَلَى يَا نَبِىَّ اللَّهِ،فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ فَقَالَ: ((كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا))،
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَانَتَكَلَّمُ بِهِ، فَقَالَ: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ،وَهَلْ
يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ - أَوْ قَالَ: عَلَىمَنَاخِرِهِمْ - إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ)).[6]
وحصائدُ اللسان: أقواله المحرمة، وهي أنواع كثيرة،
فمنها
ما يُوصل إلى الكفر، ومنها دون ذلك، فالاستهزاء بالله ودينه، وكتابه ورسله
وآياته، وعباده الصالحين فيما فعلوا من عبادة ربِّهم،
كلُّ هذا كُفر بالله،ومخرج عن الإيمان، وهو من حصائد اللِّسان،
والكذب والغيبة والنميمة، والفحش والسبواللعن، كُلُّ هذامن حصائد اللسان؛ قال - صلَّى
الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله ليبغض الفاحش البذيء)).[7]
قال
الحافظ ابن رجب: "والمرادُ بحصائد الألسنة: جزاءُ الكلام المحرَّم
وعقوباته، فإنَّالإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات، ثُمَّ يحصد يوم
القيامة ما زرع، فمنزرع خيرًا من قولٍ أو عملٍ، حَصَد الكرامة، ومن زرع
شرًّا من قولٍ أو فعل، حَصَدالنَّدامة، وهذا يدلُّ على أنَّ كف اللسان
وضبطه وحبسَه هو أصل الخير كلِّه، وأنَّمن ملك لسانه، قد ملك أمره وأحكمه
وضبطه". اهـ.
وجاء عند الطبراني وحسنه الألباني عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
((عليك بطول الصَّمت، إلاَّ مِن خير؛ فإنَّه مَطردة للشيطان عنك، وعونلك على أمر دينك))
.يَجبُ
على كل مسلم أنْ يصونَ لسانه ويحفظه، وألاَّ يطلقله العنان، فلا يسمح
لنفسه أن يتكلم بغير ما هو حق وخير ومعروف، وأن يكفَّ لسانهعما هو باطل وشر
ومنكر؛ قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍإِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ
عَتِيدٌ} [ق: 18]،
وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أوليصمت))[8].
قال
النَّووي في "الأذكار": فهذا الحديث المتفق على صحته نصٌّ صريح في أنَّه
لا ينبغي أن يتكلمإلاَّ إذا كان الكلامُ خيرًا، وهو الذي ظهرت له مصلحته،
ومتى شكَّ في ظهور المصلحة،فلا يتكلم
قال الإِمام الشافعي -
رحمه اللَّه -: إذا أراد الكلام، فعليه أنْ يفكر قبل كلامه، فإن ظهرت
المصلحة،تكلَّم، وإن شكَّ لم يتكلم حتى تظهر. اهـ.
وعن
عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رسولَ اللّه، ما النجاة؟ قال:
((أمْسِكْ عَلَيْكَ لِسانَكَ،وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ على
خَطِيئَتِكَ))
وعن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله - صلَّىالله عليه وسلَّم - يقول:
((مَنْ يَضْمَنْ لي ما بينَ لَحْيَيْهِ وَما بينَ رِجْلَيْهِ، أضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ))[9].
فالمؤمنُ
الصادق الإيمان بالله ولقائه لايتكلم إلاَّ إذا كان الكلام خيرًا، أمَّا
إذا كان الكلام شرًّا فلا يتكلم؛ فعن أبيهريرة - رضي الله عنه -: أنَّ
النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال:
((إنَّ العبدَ
ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يُلقي لها بالاً يرفعهالله بها درجات، وإن
العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بهافي
جهنم))[10].
وقد سُئل - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أيُّالمسلمين خيرٌ؟ قال:
((مَن سَلِمَ المُسلمون من لسانه ويده))[11]